المؤلف |
محى الدين ابن عربي |
---|
ابن عربي يقول في الفتوحات المكية: مرضت، فغشى عليّ في مرضي بحيث أني كنت معدوداً من الموتى. فرأيت قوماً كريهي المنظر يريدون إذايتي. ورأيت شخصاً جميلاً طيب الرائحة شديداً يدافع عني قهرهم. فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا سورة يس أدافع عنك. فأفقت من غشيتي تلك فإذا بأبي رحمه الله عند رأسي يبكي وهو يقرأ سورة يس… وهكذا منذ بداية حياته الروحية، يتجلى ابن عربي مراداً للإلهامات، مكاشفاً في رؤاه ومناماته؛ وباختصار يمكننا أن نعرفه بقولنا: إنه يشهد بالرمز عالم الواقع. فابن عربي كاتب صوفي، رؤيوي، انتمى ببدنه إلى دنيا الأحداث والوقائع، فتعلم وخدم العلماء، وساح في الشرق والغرب، وخاطب الناس على قدر العقول؛ وانتمى بروحه إلى عالم السيادة فيه لمحمد صلى الله عليه وسلم، لا يشاركه فيها مخلوق، مهما علت رتبته في مقامات الولاية. وجاءت كتب ابن عربي جميعاً ناطقة بهذه السيادة، وبتفرد النبي صلى الله عليه وسلم في عالم الكمال؛ وكتاب الإسرا الذي نقلب صفحاته يبين بكل الأسانيد المتوفرة للكاتب المسلم، من عقلية وشرعية، قرآنية وحديثية، استدلالية وذوقية، سيادة النبي صلى الله عليه وسلم على قمة البناء الروحي للعالم، وأنه فرد وأوعظم حرمة في الإسلام. لقد حظي ابن عربي بنشأة علمية فقهية حديثية، فبعد انتقاله مع أبيه من مسقط رأسه مرسية إلى إشبيلية، وكان له من العمر ثماني سنوات، نشأ وتعلم، وقرأ القرآن الكريم بالسبع في كتاب الكافي على يد أبي بكر بن خلف، كبير فقهاء أشبيية، وبرّز في القراءات، وحين أتمّها أسمله والده إلى جلّة من رجال الحديث والفقه، فسمع في وقت مبكر من ابن زرقون والحافظ ابن الجد، وأبي وليد الحضرمي، والشيخ أبي الحسن بن نصر كل هذه العلوم الإسلامية حصّلها ابن عربي وهو لم يتجاوز العشرين من العمر، وهو الزمن الذي نلمس فيه توجهه إلى الخلوة، والتصوف وأحوال القوم. وكانت بدايته خلوة واحدة، خرج فيها يتحدث بكل هذه العلوم، بحسب أقواله، والأرجع أن ذلك كان عام 580هـ – 1184م. لم يأت تصوف ابن عربي ثورة على علومه السابقة، بل جاء مرحلة متقدمة تتوج مسلكه الفقهي وحياته العقلية؛ وهنا يختلف عن الغزالي الذي كان التصوف منقذه من الضلال سلك ابن عربي، في التحصيل الصوفي، وكان ذلك في الأندلس، نفس المنهج الذي يتبعه علماء الحديث والفقهاء، فنراه لا يأخذ علماً إلا عن صاحبه، ولا حالاً إلا من أهله. لذلك تعددت أساتذة ابن عربي من رجال ونساء حفظت لنا كتبه كالفتوحات ورسالة القدس أسماءهم. تعلم ابن عربي معنى العبودية على يد شيخه أبو العباس العريني، وتعلم من موسى بن عمران الميرتلي كيف يتلقى الإلهامات الإلهية؛ وتعلم على أبي الحجاج يوسف الشُّبْربُلي وكان ممن يمشي على الماء وتعاشره الأرواح، وتعلم محاسبة النفس على الأفعال والأقوال عن رجلين من أقطاب الرجال النياتبين هما: أبو عبد الله بن مجاهد وأبو عبد الله بن قيسوم: وتعلم الصبر على اضطهاد العامة عن ابي يحيى الصنهاجي الضرير، وعلمه أبو عبد الله أشرف الخلوة في الظلام مع تجنب كل داعٍ إلى تشتيت الخواطر؛ وتعلم من صالح البربري السياحة والتجوال؛ وخدم سنتين متواصلتين صوفية مسنة هي فاطمة بنت أبي المثنى وكان لها حال مع الله، بحسب تعبير ابن عربي، وتمرس بالتوكل على يد عبد الله الموروري. وهكذا كانت حياة ابن عربي في الأندلس، مرحلة تكوين علميّ وعمليّ، علميّ بخدمة رجال هذا الطريق للاكتساب؛ لأن الخدمة طيق للمثالة الصفاتية؛ وعمليّ بالخلوة واعتزال الناس ومنازلة الأحوال المقربة لله. لقد كان لابن عربي مكانته، فمنذ بدايته أعجز فيلسوف قرطبة ابن رشد وألجأه إلى الاعتراف بحالته الخاصة، التي تمثل التكريس لولادة تيار جديد في الفكر الصوفي وهو تيار علم المكاشفة، هذا العلم الذي سينافس الفكر النظري الفلسفي في الإسلام، لأنه يضع منهاجاً صوفياً ورؤية ما ورائية متكاملة لله والإنسان والكون. وبالعودة فإن كتاب ابن عربي الإسرا إلى المقام الأسرى شاهد على تجسد اكتمال مواهب ابن عربي الشخصية من حيث الشكل والمضمون وبدايات الإلهام؛ مرحلة من حياة ابن عربي الحرف فيها لا يظلم المعنى، والمعنى لا يطغى فيها على الحرف، فاكتملت بالتالي للقارئ المتع الأدبية والفكرية والروحية معاً. وكل حرف ومعنى في هذا الكتاب شاهد على شباب ابن عربي وفتوته من ناحية، وشاهد على نداوة تفتحه على عوالم الإلهامات من ناحية ثانية، وهو يروي تفاصيل رحلة منامية إلى السموات السبع فما فوقها على لسان السالك الذي هو ابن عربي.
المؤلف |
محى الدين ابن عربي |
---|