المؤلف |
أرنو جايجر |
---|
فى رواية ملك فى منفى العمر يروي أرنو جايجر قصة سنوات معاناة والده من مرض ألزهايمر، الذي يُطلِق عليه جايجر مرض القرن، وكيف كان يتعامل مع والده على مدار هذه السنوات. غير أنه لا يسرد الأحداث وفقًا لترتيبها الزمني؛ إذ إنه لا يهتم كثيرًا بوصف التفاصيل الطبية للمرض الذي كان يتقدم ببطء ليُحكِم قبضته على والده قدر اهتمامه بتقديم الصورة الكبرى لآثار ذلك المرض على المريض نفسه وعلى المحيطين به. إن هذه الرواية تعد كذلك قصة عائلية تركِّز على شخصية الأب بدءًا من شبابه المفعم بالصحة الحيوية وحتى هِرمه، وكذلك قصة الابن الذي يروي هذه القصة.كملكٍ في منفاه!! ..هكذا كانت عذوبة وصفه لأباه الذي أرداه ألزهايمر عجوزاً متسكّعاً في دهاليز النسيان..يستجدي عقله العصيّ ولو كسرة ماضٍ أو جرعةً من زمانه الخليّ، فلا يجد!.. فيبيت ليله كليل الجسد، عليل الروح، رابطاً على القلب بحجر كعابري السبيل .. كصائميّ الأبد!..وكأن ذكرياتنا في مشيب العمر أوطان! ..وكأنها هي مسقط القلب وهي إرثنا الغالي!..وكأن حتى النسيان يارب لا يأتي إلا وهو غير مرغوبٍ فيه ..حيث لا ينتظره أحد!..وأنا التي كنت قد حسمت أمري من سطوة الدهر وصافحت القدر، ثم عقدت معه الصفقة: لك ما أردت..ولي العمر الطويل أفنيه بذهنٍ متقدّ وأبناء كُثر..وعصاً أُلوّح بها في وجه المعاتيه والحمقى، فيتمتمون بالحنق العاجز: يا لها من عجوز!..أما وقد قرأت هذا الكتاب ..وبلغني من مرّ الكِبر ما قد بلغ، فعليّ فعلياً أن أُعيد النظر.هذه سيرةٌ ذاتية لمرض ألزهايمر مسرحها والد الأديب النمساوي أرنو جايجر …حيث دوّن محاولاته وإخوته لاسترداد أبيهم الذي تاه في مجاهل الشيخوخة عاماً بعد عام ..فيما بين ذاك الرفض الأول المورث للشقاق و تلك الحكمة بعد الرضا والاستسلام ..فمثلهم وإياه كمثل هاربٍ بمنطاد إلى عالم من الهلاوس والخيال ..قد تشبث الجميع بأطرافه إلى الواقع في عناد حتى أنهكهم التعب ..كان هذا قبل أن يدركوا أن لو كانوا قرروا منذ البدء معه الهرب ..لما كان قد فاتهم بعض ما في تلك الرحلة من جمال. نديّة هي لغة هذا الأديب ..حتى في وصفه لخلافاته مع أبيه ..بها رجاءٌ حزين لاستبقاء شئٍ جميل لم يعد… يقول أرنو جايجر متحدثا عن دافعية أبيه الأولى للوقع في براثن هذا المرض بالذات: فإنني أدركت الآن أن هناك فرقاً بين أن يستسلم المرء لأنه فقد الرغبة في الحياة وأن يستسلم لأنه يعرف أنه مهزوم لا محالة، وكان أبي ينطلق من أنه مهزوم، وعندما وصل إلى مرحلة من حياته بدأت قدراته العقلية في التلاشي أصبح يعوّل على تماسكه الداخلي، وهو أمر يمكن أن يعتبر وسيلة عملية تساعد الأقارب على التعامل مع بؤس هذا المرض، حيث لا يوجد له علاج مؤثر حتى الآن. يقول ميلان كونديرا: الأمر الوحيد الذي يبقى لنا في مواجهة تلك الهزيمة التي لا مناص منها، التي تسمى الحياة، هو محاولة فهمها تطورت محنة والده تدريجياً ..بادئاً بنسيان المأكل والمشرب ثم شؤون العناية الشخصية ومواضع الأوراق الرسمية وأماكن الغرف ثم انتهاءً بهوية أبنائه وعنوان منزله …حتى صار يألف كونه غريباً يوقظه كل صباحٍ حفنةٌ من الغرباء .. أفُضل أن أذهب إلى البيت صار ذلك مطلبه الدائم ..وصارت أمثال تلك المقاطع بعض تجليات تلك الغربة اللانهائية…يحكي أرنو جايجر فيقول: .نظرت إليه وقد بدا عليه الإرهاق الشديد الذي سببته له هذه اللحظة العصيبة مع أنه كان يحاول إخفاء الاضطراب الذي اعتراه، كان مضطرباً تماماً، وكان جبينه يتصبب عرقاً، وكانت رؤية أي إنسان يوشك أن يُصاب بالذعر تؤثر فيّ حتى النخاع. يُعد الإحساس المؤلم بعدم الوجود في البيت من أعراض هذا المرض. وكنت أفسر لنفسي هذا الأمر بأن مريض ألزهايمر يفقد الاحساس بالاحتواء بسبب ما يعانيه من تمزقٍ داخلي، ولذلك فإنه يتوق إلى مكان يجد فيه ذلك الاحتواء مجددا، ولكن بسبب الإحساس بالاضطراب والارتباك الذي لا يفارقه، حتى في أكثر الأماكن التي كان يألفها، أصبح سريره أيضاً عاجزاً عن إعطائه الشعور بالاحتواء، وبأنه في البيت. ولعل كلمات مارسيل بروست تعبر عن ذلك تعبيراً بليغاً عندما يقول: الجنات الحقيقية هي تلك التي فقدناها.. وأدركت بعد سنوات عديدة أن الرغبة في الرجوع إلى البيت تحمل بين طياتها شيئا إنسانيا، فقد فعل أبي بصورة تلقائية شيئا فعلته كل الإنسانية من قبل، ألا وهو تحديد مكان من المفترض أن يشعر المرء فيه باحتواء إذا وصل إليه، ليكون بمثابة الترياق للحياة المفزعة غير المحتملة ، سمّى أبي ذلك المكان البيت، بينما يسمّيه المؤمنون الجنة. عندما يكون الإنسان في البيت يجد أشخاصاً يشعر اتجاههم بالألفة ويتكلمون لغةً مفهومة. يقول أوفيد في كتابه المنفى: حيث يفهمون لغتك يكون الوطن . وكانت لهذه المقولة أهمية وجودية فيما يتعلق بأبي، لأن محاولاته لمتابعة أحاديث الآخرين كانت تبوء بالفشل بصورةٍ متزايدة، كما كانت محاولاته التعرف على الوجوه تفشل، مما جعله يشعر وكأنه في منفى. وكأني أراقب والدي وهو ينزف ببطء، والحياة تفارقه قطرة بعد قطرة ..هكذا كان يفضل الكاتب وصف تطورات المرض عند أباه رافضاً تماماً قولبته في التشبيهات الدارجة لمن هم في مثل حالته وإن كانت علمية..يقول: أتذكر أيضا أنه لايكاد يخلو كتاب عن مرض ألزهايمرمن تشبيه المرضى بالأطفال الصغار، وهذا أمٌر في غاية السخف، فالإنسان البالغ لايمكن أبداً أن يعود طفلا، فالطفل ينمو بطبيعته إلى الأمام، الأطفال يكتسبون قدرات جديدة بينما يفقد مرضى ألزهايمر قدراتهم. ومراقبة تصرفات الأطفال تُصقل نظرتنا إلى عملية التقدم، في حين أن النظر إلى مرضى ألزهايمر يُصقل نظرتنا إلى عملية الفقدان، والحقيقة هي أن التقدم في السن لا يرد إلينا ما يسلب منا ، إنه مثل المنحدر ، وأكبر هم يمكن للكبر أن يُصيبنا به هو أن يطول أمده أكثر مما نحتمل. كان للسيد أوجوست جايجر الأب تاريخاً من الفقر .. فهو ابنٌ لأسرةٍ متدينةٍ مكونة من أبٍ عامل وأم مكافحة لهم عشرة أطفال هو الثالث من بينهم درّجوا على حياةٍ شبه بدائية ..عانًوا فيها جميعاً من سوء التغذية ومرارة الحرمان …كانت معلومات كتلك تدفعني رغما عني لالتقاط صورة فوتوغرافية للسيد جايجر الأب هي ذاتها صورة أبي …أكدتها مقاطع أخرى كتلك التي تحدث فيها الكاتب عن علاقة أبويه المضطربة: كان الأمر بمثابة تنافر مثاليّ بين أحلام حياة مختلفة ، فعدا الزواج وإنجاب الأطفال لم تجمعهما سوى حياة كانت تسير يوماً بيوم، وكأن شخصين في برج بابل يحاولان في حيرةٍ أن يتحدثا معا كلٌ بلغته ويشكوان قائلين: أنت لا تفهمني! . عندما سألت أبي لماذا تزوج أمي؟ أجابني أنه أحبها كثيرا وأراد أن يوفر لها حياة أسرية. وهنا تظهر مجددا موضوعاته الأساسية: البيت والأمان والاحتواء. فقد كانت أهم الأمور في نظره… أما أمي فلم تكن تبحث عن الأمان والاحتواء، وإنما عن الإثارة، فقد كانت منفتحة على العالم ، ولديها فضول لمعرفة الجديد، كان القيام برحلة في شهر العسل مستبعدا لعدم توافر المال اللازم، وكانت صدمة أمي كبيرة عندما طلبت منه القيام بنزهة واعتبارها رحلة شهر العسل، ولكنه رفض. وربما اعتبر أبي أن الميزة الوحيدة في كون العالم فسيحاً وجميلاً هو أن الناس لا يهرعون إلى بلدة فولفرت!…أشعر وأنا أصف زيجة فاشلة وكأني أقوم بكنس قشٍ مبتل. ولكن لم تكن النشأة وحدها أو حتى علاقة أبويه هي سببي الوحيد لتلك المقاربة ..والتي لا أدري الآن إن كنت سأراها فيما بعد غير لائقة كون أبي _شاكرةً الله_ لا يعاني من ويلات هذا المرض ..إلا أن الكاتب قد أرفق العديد من مواقف أبيه التلقائية والأصيلة في شخصيته قبل المرض وبعده ..والتي بدت طريفةً أحياناً ومحرجةً بأحيان أخرى ..أبسطها أن يقرر تعليق لوحةٍ ويبدأ بالدقّ على الحائط ما أن تتلقى اتصالا هاماً..وأقصاها كان يدفع الكاتب إلى الظن بأن أبيه يصرّ على تعكير صفو حياته متعمداً… كنت أبتسم وأنا أقرأ بعضاً من تلك المواقف ..بل وأستسلم لما تستدعيه من ذكريات ..حتى حسّ دعابته العادية كان مألوفا جدا إليّ ..يحكي أرنو جايجر فيقول: ضغطنا على أبي ذات يومٍ ليخرج معنا في نزهة، فخرج رُغما عنه وأراد طوال الوقت الرجوع إلى البيت، مع أننا لم نغادر شارع أوبيرفيلد. ضايقني ذلك، لأن الأمسية كانت جميلة وكنت أود التنزه معه بمحاذاة النهر. وبدا الإرتياح على أبي عندما دخلنا جادة أوبيرفيلد مرةً أخرى ونظرنا إلى القرية أسفل منا، فقد شعر بالسعادة وامتدح هذا المنظر الجميل. سألني: هل تأتي كثيرا للتنزه هنا؟ كثيرون يأتون للتمتع بهذا المنظر الجميل. عجبت لما قال، وقلت له: أنا لا آتي للتنزه هنا. لقد نشأت في هذا المكان. بدا ذلك مفاجأةً له، فعقد ما بين حاجبيه وقال: نعم أفهم. فسألته: هل تعرف أساساً من أكون؟. أحرجه سؤالي، فاستدار إلى كاترينا صديقتي وقال مداعباً وهو يشير بيده نحوي: وكأن هذا أمرٌ مهم! وعن اللحظات التي ركبوا فيها المنطاد راحلين إلى عالم أبيهم ..يقول الكاتب: كانت محاولات الموائمة تلك مؤلمة في بادئ الأمر، وكانت تستنفذ قوانا، ولأن الإنسان منذ طفولته يرى والديه في صورة الأقوياء القادرين على مواجهة مصاعب الحياة، فإن رؤية الضعف الذي يستنزفهما بالتدريج تكون أصعب من رؤية ذلك يحدث للآخرين. لكني بمرور الوقت بدأت أتأقلم على نحو جيد مع هذا الدور الجديد ، وتعلمت أيضا أن التعامل مع إنسانً مريض بمرض ألزهايمر يحتاج إلى معايير جديدة. فإذا أراد أبي أن يوجه الشكر فليوجه الشكر، حتى وإن لم يكن هناك داعٍ لذلك، وإذا أراد أن يشكو من أن العالم كله قد تخلى عنه ، فليشكُ، سواء أكان تقييمه للأمور يطابق الحقيقة أم ينافيها، لأنه لم يعد يرى عالما سوى عالم ألزهايمر. وبوصفي قريبا له فكل ما أستطيعه هو محاولة تخفيف مرارة الأمر برمّته، وذلك بأن أسمح للواقع الذي اختلطت أوراقه عند المريض بأن يظل قائما كما يراه هو. ولأن أبي لم يعد قادرا على عبور الجسر المؤدي إلى عالمي، قررت أن أعبر أنا الجسر إليه. ثم يردف في موضع آخر: أصبح التعامل اليومي معه عادةً يشبه الحياة في الخيال ، إذ كنا نملأ فجوات الذاكرة بتصورات خيالية، ونبني جسوراً لتساعده على فهم ما يستعصي عليه فهمه، وتعينه على مقاومة الهلاوس. المكان الوحيد الذي تبقى للتعايش بيننا كان العالم الذي يدركه والدي، وكثيرا ما كنا نكرر قول الأشياء التي تدعم وجهة نظره وتسعده. وتعلمنا أن القداسة المصطنعة التي نضفيها على الحقيقة هي أسوأ الأشياء، فهي لم تساعدنا على إحراز أي تقدم، بل أضرت بالجميع، إن محاولة إعطاء مريض ألزهايمر إجابات سليمة تبعاً للأعراف المعهودة دون مراعاة حالته يعتبر بمثابة محاولة إجباره على فهم عالم ليس بعالمه. وهكذا سرنا في طريق يحيد عن الواقع الملموس ثم يعود إليه عبر تعرجات كثيرة. فعندما كان أبي يطلب العودة إلى البيت كنت أقول له: سأرى ما يمكنني فعله، أظن أن باستطاعتي مساعدتك. وعندما كان يستعلم عن أمه، كنت أوحي إليه بأني أعتقد أيضا أنها لاتزال حية، وكنت أؤكد له أنها على علمٍ بكل شئ وتعتني به. كان يُسعده سماع ذلك، فيشرق وجهه ويهز رأسه راضيا …عادةً ما كانت الحقيقة الموضوعية لا تأخذ حظها ، ولم أكن آبه لذلك ، فقد كانت عديمة الجدوى، وفي نفس الوقت كانت سعادتي تزداد كلما أوغلت تفسيراتي في بحر الخيال أكثر. وتبدو تلك السطور لي ..كترياق من الحكمة من بعد تجربة كتلك ..يقول أرنو جايجر: إن مرض ألزهايمر مثل كل الأشياء المهمة ، يوضح لنا أشياء أخرى أكثر مما يوضح خفاياه هو نفسه ، تتضح السمات الإنسانية والمشاعر الاجتماعية كما لو كنا ننظر إليها عبر نظارة معظمة. العالم يحيرنا جميعا ، وإذا دققنا النظر فسنجد أن الفارق بين الإنسان السليم والآخر المريض هو مدى قدرته على مداراة الحيرة الظاهرة، فتحتها تقبع الفوضى. حتى بالنسبة إلى الشخص السليم نسبيا يُعد النظام القائم في رأسه مجرد خيال. ..ولقد ازداد تضامني مع أبي عنما أدركت ذلك مع مرور الوقت. بين كل فصل وآخر من فصول الكتاب ..مقطعا حواريا شديد الخصوصية رغم إيجازه بين الكاتب وأبيه..اخترت منها هذا بالتحديد ..ليس لكونه بسيطاً فحسب بل لأنه بدا لي كوصيةٍ من خبيٍر بالنسيان حتى أجاد تثمين مهارة التذكر : الأب: لأا أعرف كيف ستسير الأمور! الابن: سأعتني بكل شئ. الأب: إياكم أن تنسوني، لن يكون ذلك عدلا. الابن: لن نفعل ذلك يا أبي. الأب: يا هذا، ما تقوله ليس بهذه السهولة. الابن: بكل تأكيد ، لن ننساك أبدا! حين اشتد سعير الخلاف بيني وبين والدي منذ أعوام قليلة ….كان أخي يصحبني في نزهةٍ إلى البحر مرات ..أو يقود بي السيارة في الطرقات إلى غير هدى ..كنا نثرثر قليلاً، ونصمت طويلاً.. فما أن ينقطع بيننا حبل الكلام ، حتى يُمسك كلاً منا تلقائياً بطرفه في اطمئنان ..دونما حاجةً لسؤال: ما بك؟؟ ..أذكر كيف كان ذلك مريحاً جداً جداً حينها…إثر انهماكي في شخصية جايجر الأب هنا، خطر لي أن أبعث لأخي مداعبةً إحدى مواقفه الطريفة : ( والنبي مش بيفكرك ب بابا يا محمد؟؟) ثم نسيت…تهاتفني أمي مؤخرا حاكيةً وشاكيةً شيئاً من غرابات أبي الأخيرة ..نضحك على بعضها سوياً قبل أن تمسّ المرارة صوتها فجأةً لتخبرني بأنها فكرت في قرار الانفصال مجدداً، لولا جهد أخي الدائم للحيلولة دون ذلك!…يرسل لي أخي صورة جرو هاسكي أزرق العينين حيث يفكر جدياً باقتناءه..عايز أكبر معاه هكذا قال!…أتوقف فوراً عن مشاركة زوجي التذمر من كلب جيراننا الدائم النباح ..أبُدل الاقتباسات هاهنا لتكون كلها لخواطر جايجر الإبن وحديثه الذاتي ..وأجدني أحبه كما لو كان محمد.
المؤلف |
أرنو جايجر |
---|