المؤلف |
د. يوسف زيدان |
---|
اختار الدكتور يوسف زيدان لروايته الأخيرة نور المتممة لثلاثيته (محال/جونتنامو/نور)، اختار دربا موحشا، ومسلكا وعرا، أشفق على غيره لو قرر ارتياده. فبجرأة وحكمة الفيلسوف ورفق المعلم وبراعة أديب حاز من التقدير ما جعله يتحرر من ربقة أى محاولة لإثبات الذات، قدم يوسف زيدان مقاربة شديدة التعقيد، بالغة العمق والكثافة للواقع المصرى، العربى، العالمى، والإنسانى. ولعل الأديب المخضرم قد أدرك مدى صعوبة ما يطرح، فترجل -بإرادته- عن صهوة جياده المجنحة المحلقة فى سماء اللغة، وتخير لثلاثيته لغة أكثر سلاسة من لغة أعماله السابقات (عزازيل والنبطى) ولم يرض أن تجتمع وعورة اللغة وفخامتها مع عمق الفكرة وضخامتها، ولكى لا ينشغل القارئ بعذوبة القول و جزل العبارة. و قد كان له ما أراد، فالديالكتيك الهيجلى هو اسم اللعبة، والثلاثية ذاتها هى تجل صارخ لفكرة الإنسان الذى بدأ يوسف زيدان الثلاثية بحاصل الجمع بين شقيها المتناقضان المتكاملان (الذكر والأنثى) واستعرض ببراعة ما يكون بين رجل وأمرأة، وكل من قرأ محال قد يتعجب من حدة منعطفات الرواية غير مدرك أن ذلك هو -تماما- المقصود منها، وهو أنه إذا تكامل مفهوم الإنسان فكل شيء ممكن، ولا مستحيل ولا شيء (محال). و قد أرهص الدكتور يوسف لذلك الطرح فى مقالات عن مفهوم الإنسانية، تزامن نشرها مع صدور روايته نور. و فى جونتنامو كان الرجل (لذلك جونتنامو هى الأشد وطأة على النفس والأكثر كآبة بين أجزاء الثلاثية) ففى عالم الرجال حتى النساء قاسيات جافات يمارسن كل جرائم الرجال، وذلك هو الإنسان دون نصف تجليه الآخر (المرأة). أما فى نور فقد عرض يوسف زيدان التجلى الثانى للمفهوم الإنسانى (المرأة)، وهو التجلى الأنعم، الأجمل والأرق. لذلك فقد جاءت أحداث الرواية هادئة، منسابة، تنسرب فى تشققات الأرواح الجافة، و ابتعدت تماما عن المنعطفات الحادة والأحداث الكبار، وتمتلئ رقة وعذوبة و…معاناة!! فالفيلسوف لم ينس أن المرأة -وإن كانت هى النصف الأجمل والأرق من المفهوم الإنسانى- هى بلا التجلى الآخر (الرجل) تعانى ما يعانيه الرجل بلا إمرأة. و كأن كل ما سبق ليس كافيا، فقد ضمن يوسف زيدان فى كل جزء من أجزاء الثلاثية، ثلاثية ديالكتيكية منفصلة!! فقدم فى محال مزجا فريدا بين آراء أفلاطون التى ترى الجمع بين المتناقضات سبيلا للتخلص من النقائض للوصول إلى حقائق جامدة وبين الديالكتيكية الهيجلية التى ترى أن الحركة الديناميكية للمتناقضات هى سبيل الوصول إلى الحقيقة، ومن نافلة القول أن الدكتور يوسف زيدان قد أنتصر لهيجل. فالبيئة و النشأة كطريحة والواقع الجاثم كنقيضة والمستقبل المتوقع كحاصل للجمع بينهما، تتناغم تلك الثلاثية لتتكامل مع حاصل الجمع بين المتناقضين فى جزئى الثلاثية الآخرين لتخرج لنا محال كما رأينا و قرأنا. و كما محال جاءت جونتنامو محملة بفكرة فى غاية التعقيد، الزمن. ماضى البطل وذكرياته، مستقبله وأحلامه، و محنته الآنية التى أفاضت الرواية فى سرد أهوالها. أما نور ولأنها جوهرة التاج وواسطة العقد فقد تحررت -جزئيا- من الطرح الديالكتيكى، واتخذت منعطفا فينومينولوجيا بالغ الحدة، فتنقلت بين صورة الرجل بين الزوج الغاشم والمعمارى الراقى والجار اللزج والأب الحنون المغلوب على أمره، وبين صور المرأة، أمل وزوجة الأب ونور ذاتها وابنتها. وعلاقة كل بالصلة الخفية الحاضرة دائما فى ذهن الإنسان لله. وفى لمحة بارقة يتصدر الكتاب نص أبوكريفى (((محرم))) عن الله المنعزل الذى ترك الإنسان وشأنه، وتعالى عن الإنغماس فى مشكلاته التى يعرف الإنسان أنها مما اقترفت يداه، وأيدى غيره من البشر، والكتاب يسخر من سذاجة نور التى تطلب العون الإلهى حيث لا ينبغى أن تطلبه، فى إشارة واضحة لواقعنا الكئيب الذى تراكمت فيه متناقضات الأشياء وغرائبها واعتادها الناس حتى وصلنا لما وصلنا إليه من حال. ومرورا سريعا على نور واستعراض اللامعيارية والتنقل الفيمينولوجى والديالكتيك تأتى الإرادة ومذهب شوبنهاور فى التفاؤل والحذر كى تنتهى نور، ببشارة أن التغيير ممكن، والـ(أمل) التائه فى لامعياريته قد يعود، ومن حيث بلغت نور ستبدأ نور أخرى وقد تكون نورا (وهى إشارة لفظية خفيفة تلعب على وتر التوكيد). وكل هذا الكم الهائل من الإشارات والأفكار والبشارات والمحتوى الثرى شديد التشابك، نجح يوسف زيدان -بطريقة ما- فى تقديمه فى ثلاث روايات فقط!!! ولو أراد طرح تلك الأفكار فى كتاب بحثى لكان فى حجم دائرة المعارف البريطانية وملل دليل الهاتف. لذلك فرواية نور -والثلاثية كلها فى الواقع- ليست للقارئ الكسول وقد تعجبت قليلا لأن الكاتب لم ينوه لذلك كما فعل من قبل فى كتابه (اللاهوت العربى). هى رحلة فى الزمن والأماكن وفى أنفسنا، والشكر موصول للدكتور يوسف زيدان أنه كان هادئ الأظعان وسائقها وحاديها.
المؤلف |
د. يوسف زيدان |
---|