المؤلف |
ستيفان زفايج |
---|
هذه الرواية ليست رواية بالمعنى التقليدي للكلمة.. فلم يكن التركيز على أسلوب الطرح ولم يكن ممكناً أن يكون زفايغ موضوعياً حيث أن الموضوعية هنا ليست من ضمن المستطاع. ومن الضروري كي نفهم نفسية زفايغ عند كتابته لهذا الكتاب الجو العام في أوروبا عند إصدار هذا الكتاب. سنة 1933 وصل أدولف هتلر إلى سدة الحكم في ألمانيا وذلك عن طريق ديمقراطي كزعيم لأكثر الأحزاب السياسية الألمانية شعبية. وبحكم أن زفايغ نمسوي الجنسية والنمسا وطن زفايغ قد تم ضمها لألمانيا عاش زفايغ في أحضان دولة هتلر البوليسية. سنة 1936 أصدر ستيفان زفايغ كتابه هذا وفيه رسالة رمزية ونبوءة متشائمة لما هو آت. عاد زفايغ للتاريخ واختار حكاية كالفن وكاستيليو ليرويها لنا.. أو البرغش ضد الفيل كما قال في الصفحة الأولى فيها. عنف الدكتاتورية ليس ترجمة دقيقة لعنوان الكتاب الأصلي وهو كاستيليو ضد كالفن أو ضمير ضد العنف لكن المترجم آثر عنواناً مجازياً أكثر منه ترجمة للعنوان الأصلي. كالفن ليس سوى هارب من نير محاكم التفتيش الكاثوليكية في فرنسا إلى جيينف بصفته متبعاً للحركة الإصلاحية الكنسية التي أطلقها مارتن لوثر والتي تعرف بالمذهب البروتستنتي. وقد لاحت الفرصة لـ كالفن لتكوين مدينته الفاضلة في جيينف. من المدهش سياق تسلسل الأحداث وتماثلها إلى حد ما مع سير الثورات حسب ما كتبه كرين برينتن في تشريح الثورة.. وذلك باعتبار البروتستنتية كانت ثورة بمعنى الكلمة ضد الكاثوليكية والتي حدث بينهما إعلان حرب بمعنى الكلمة فيما بعد. وكما استنتج برينتن في كتابه أن الثورات تنتهي بقيام نظام أشبه ما يكون بالنظام الذي قامت عليه.. كانت مدينة كالفن الفاضلة لا تقل وحشية عن الدولة الكاثوليكية التي هرب من نيرها.. فنجده هو ذاته النابذ للعنف واضطهاد الزنادقة.. لا يمانع باضطهادهم بما أنه هو الذي يقوم بالإضطهاد هذه المرة ولا يقوم عليه ! بل إنه لا يكتفي بعدم الممانعة بل يحرّض ويقوم بالوشاية والدسائس والمؤامرات في سبيل تشديد قبضة يده على السلطة.. أليس كذلك هم الملوك ؟ حتى تلك المنهجية المذهلة التي ذكرها زفايغ في كيفية بسط كالفن لسلطته على مراحل.. وكيف أنها تحاكي الكثير من الواقع الذي عشناه ونعيشه اليوم. لن أخوض في سير الأحداث.. لكنني سأعرّض بعدة نقاط؛ لم يكن زفايغ محايداً في طرحه على الإطلاق كما أشرت سابقاً.. وهنا أكرر بأنه لم يكن ممكناً له ذلك.. أنى له الموضوعية والتاريخ يعيد نفسه وهنا أقتبس: في كل مرة تختار مجموعة صغيرة وضعيفة، سواء بسبب دينها، وأحياناً بسبب لون البشرة، أو العرق، أو الوطن الأم، أو المثل الإجتماعية، أو نظرتها للعالم، فتفرغ فيها المجموعة الأقوى طاقة الإلغاء الكامنة فيها. تتغير الكلمات وتتغير المناسبات، لكن منهج التجريح والإتهام والإلغاء يبقى ذاته. كان زفايغ في كتابه هذا يحاول أن يلعب دور كاستيليو مع كالفن.. أراد أن يحارب هتلر بالكلمة قبل أن يضطر العالم المنافق بمحاربته بالرصاص. وهنا أقتبس مرة أخرى: وحيث أن العنف يعود إلى الوجود في كل حقبة تاريخية بأشكال جديدة، ينبغي أن يجدد رجال الفكر النضال ضده دائماً أيضاً. ولا يجوز لهم أن يتهربوا متذرعين بأن العنف الراهن قوي للغاية إلى حد لا يعقل معه أن يقاوم بالكلمة، ذلك أن الكلام الضروري لا يقال دائماً بما فيه الكفاية، وقول الحقيقة لا يمكن أن يكون من دون جدوى. حتى لو لم تنتصر الكلمة فهي تثبت وجودها الأبدي، ومن يخدمها في مثل هذا الوقت الحرج، فهو يثبت بذلك من جانبه أن لا سلطة للإرهاب على النفوس الحرة، وأنه حتى في العصور العديمة الإنسانية بضراوة، ما زال هناك مجال لصوت الإنسانية. نلاحظ مرة أخرى النهاية المتشائمة في انتصار الدكتاتورية كما رأينا ذات الأمر في حكاية زفايغ الأخرى لاعب الشطرنج والتي انتحر زفايغ وزوجته وكلبهما مباشرة بعدها. ورغم أن انتصار الدكتاتورية في كتابه هذا هو انتصار تاريخي لا يد لزفايغ فيه.. بل إنه بعث في الصفحات الأخيرة بصيصاً من الأمل أن الحرية ستأتي في نهاية الأمر ومن قلب ذات الدكتاتورية المنتصرة.. بما أن أوائل حركات التحرر والمناداة بحقوق الإنسان قد نشأت في ذات الدول التي انتشر فيها المذهب الكالفيني.. لكنه، يعود في لاعب الشطرنج إلى اليأس بعد أن اكتسحت جيوش هتلر أوروبا وفر زفايغ من أوروربا كلها إلى البرازيل حيث انتحر. شدد زفايغ في هذا الكتاب على آراء كاستيليو وأبرز الحجج والتصريحات وتلك التي أشبه ما تكون بالبيانات الرائعة لمذهب التسامح والإنسانية المتمثل في شخص كاستيليو وهنا أقتبس: أيها المسيح، خالق العالم وملكه، هل ترى هذه الأشياء ؟ هل تغيرت حقاً وصرت غير ما كنت عليه ؟ فظيعاً وعدوانياً مناقضاً لما كنت عليه ؟ عندما كنت في الأرض ما كان فيها من هو أرق وأعذب. لا أحد تحمل إهانات قدر ما تحملت وغفرتها بلطف. شتموك، بصقوا عليك، إستهزأوا بك، كللوا هامتك بالمسامير، بين لصين صلبوك، وأنت من عمق الإذلال صليت من أجل الذين ألحقوا بك هذه الإهانات والحقارات. أحقاً أنك تغيرت كثيراً هكذا ؟ أستحلفك باسم أبيك الأقدس: هل أنت حقاً امرت بأن يضطهد أولئك الذين لم يعملوا تماماً بوصاياك وأوامرك بحسب ما تفرضه ديانتك، وبأن يعدموا غرقاً، وأن تمزق أجسادهم وتنتزع أحشاؤهم بالكماشة، أن يخضبوا بالملح وأن تقطع رؤوسهم بالسيوف، وأن يتم شواؤهم على نار هادئة ببطء ليطول تعذيبهم قبل الموت ؟ هل توافق حقاً أيها المسيح على هذه الأشياء ؟ هل هم وكلاؤك حقاً الذين يرتكبون هذه المذابح التي تهرس الناس وتقطعهم إرباً ؟ هل أنت هو حقاً ذاك الذي يستشهدون باسمه في مثل هذه المجازر الفظيعة، كما لو أن بك جوع لالتهام لحم البشر ؟ إذا كنت أنت حقاً أيها المسيح الذي أمر بهذه الأشياء، فماذا بقي للشيطان أن يفعل ؟ يا للكفر الشنيع ! أن تفعل أنت مثل فعله ! يا لوقاحة البشر الخسيسة إذ يلقون تبعة هذه الأشياء على المسيح، بينما هي من بدع إبليس وإرادته ! وأقتبس أيضاً: أولئك الذين لا يريدون سوى أكبر عدد ممكن من الأنصار، مجبرين الناس على الإنضمام إليهم قسراً، يشبهون معتوهاً لديه إناء كبير به قليل من الخمر فيملؤه بالماء لكي يصير لديه الخمر الكثير. لكنه بذلك لن يزيد الخمر، بل سيفسد الخمر الجيد الذي كان عنده. لن يكون بوسعكم أبداً الزعم أن الذي أرغمتموه على عقيدتكم إنما هو مؤمن بقلبه فعلاً. إذا منحتموه الحرية فلسوف يقول: أؤمن من كل قلبي أنكم طغاة ظالمون، وأن ما أجبرتموني عليه، لا قيمة له. لن يكون النبيذ السيء أفضل مذاقاً، إذا أرغم الناس على شربه. بقي أن نتساءل: هل عدم زفايغ الوسيلة في وضع هذا النص الجميل في قالب روائي أكثر ملائمة ؟ كان تولستوي على سبيل المثال في الحرب والسلام يتوقف بين فصل وآخر للتصريح برأيه الشخصي فيما يشبه المقال حتى أن كثيراً من النقاد اعتبر الحرب والسلام ليس برواية.. وأقر تولستوي نفسه بذلك حين قال بأن أنا كارنينا هي أول رواية ناضجة له رغم صدورها بعد الحرب والسلام. وبما أننا نعلم بأن هذه ليست أول محاولة روائية للسيد زفايغ.. نستطيع أن نبرر له ذلك أنه كتبها بداعي الخوف من المستقبل.. لم يشأ زفايغ التواري خلف رداء الرواية التقليدي لقول ما يشاء.. أراد أن يقول رأيه في نصوص كالفن وأفعاله ويمحص حججه ويدحضها على لسان كاستيليو وأراد أن يعلق بلسانه على كل ذلك ويسمي الأشياء بتلك المصطلحات التي يراها هو سليمة.. هو لم يقصد العرض التاريخي الأمين لما حدث.. إنما قصد عرض العبرة مما حصل وبأكثر الطرق صراحة وأبعدها عن التورية.. ليضع بين أيدينا هذه الحكاية الأبدية حيث دائماً ما هنالك من هو كالفن ومن هو كاستيليو.. حيث هنالك دوماً ضمير ما يقف وحيداً ضد العنف. هذا كتاب من الكتب المؤثرة دون شك.
المؤلف |
ستيفان زفايج |
---|